فصل: تفسير سورة العاديات

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير جزء عــم **


 تفسير سورة التين

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ‏}‏ إقسام الله تعالى بهذه الأشياء الأربعة‏:‏ بالتين، والزيتون، وبطور سينين، وهذا البلد الأمين يعني مكة، لأن السورة مكية فالمشار إليه قريب وهو مكة، ‏{‏وَالتِّينِ‏}‏ هو الثمر المعروف، ‏{‏وَالزَّيْتُونِ‏}‏ معروف، وأقسم الله بهما لأنهما يكثران في فلسطين، ‏{‏وَطُورِ سِينِينَ‏}‏ أقسم الله به لأنه الجبل الذي كلم الله عنده موسى صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏.‏ ‏{‏وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ‏}‏ أقسم الله به أعني مكة لأنها أحب البقاع إلى الله، وأشرف البقاع عند الله عز وجل‏.‏ قال بعض أهل العلم‏:‏ أقسم الله بهذه الثلاثة، لأن الأول ‏{‏وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ‏}‏ أرض فلسطين التي فيها الأنبياء، وآخر أنبياء بني إسرائيل هو عيسى بن مريم - صلى الله عليه وآله وسلم - وبطور سينين لأنه الجبل الذي أوحى الله تعالى إلى موسى حوله، وأما البلد الأمين فهو مكة الذي بعث الله منه محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏.‏ قال العلماء‏:‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏وَطُورِ سِينِينَ‏}‏ أي طور البركة لأن الله تعالى وصفه أو وصف ما حوله بالوادي المقدس‏.‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏ هذا هو المقسم عليه، أقسم الله تعالى أنه خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهذه الجملة التي فيها المقسم عليه مؤكدة بثلاثة مؤكدات‏:‏ القسم، واللام، وقد، أقسم الله أنه خلق الإنسان ‏{‏فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏ في أحسن هيئة وخِلقة و‏{‏فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏ فطرة وقصدًا، لأنه لا يوجد أحد من المخلوقات أحسن من بني آدم خلقة، فالمخلوقات الأرضية كلها دون بني آدم في الخلقة، لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ‏}‏ هذه الردة التي ذكرها الله عز وجل تعني أن الله تعالى يرد الإنسان أسفل سافلين خِلقة كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 70‏]‏‏.‏ فكلما ازدادت السن في الإنسان تغير إلى أردأ في القوة الجسدية، وفي الهيئة الجسدية، وفي نضارة الوجه وغير ذلك يرد أسفل سافلين، وإذا قلنا إن أحسن تقويم تشمل حتى الفطرة التي جبل الله الخلق عليها، والعبادة التي تترتب أو تتبنى على هذه الفطرة، فإن هذا إشارة إلى أن من الناس من تعود به حاله - والعياذ بالله - إلى أن يكون أسفل سافلين بعد أن كان في الأعلى والقمة من الإيمان والعلم، والآية تشمل المعنيين جميعًا ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ هذا استثناء من قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ‏}‏ يعني إلا المؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنهم لا يردون إلى أسفل السافلين، لأنهم متمسكون بإيمانهم وأعمالهم، فيبقون عليها إلى أن يموتوا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَهُمْ أَجْرٌ‏}‏ أي ثواب ‏{‏غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ غير مقطوع، ولا ممنون به أيضًا فكلمه ‏{‏مَمْنُونٍ‏}‏ صالحه لمعنى القطع، وصالحة لمعنى المنة، فهم لهم أجر لا ينقطع، ولا يمن عليهم به، يعني أنهم إذا استوفوا هذا الأجر لا يمن عليهم فيقال أعطيناكم وفعلنا وفعلنا، وإن كانت المنة لله عز وجل عليهم بالإيمان والعمل الصالح والثواب، كلها منّة من الله لكن لا يمن عليهم به، أي‏:‏ لا يؤذون بالمن كما يجري ذلك في أمور الدنيا، إذا أحسن إليك أحد من الناس فربما يؤذيك بمنه عليك، في كل مناسبة يقول‏:‏ فعلت بك، أعطيتك وما أشبه ذلك‏.‏ ثم قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏ انتقل الله تعالى من الكلام على وجه الغيبة إلى الكلام على وجه المقابلة والخطاب قال‏:‏ ‏{‏فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ‏}‏ أي‏:‏ أي شيء يكذبك أيها الإنسان بعد هذا البيان ‏{‏بِالدِّينِ‏}‏ أي بما أمر الله به من الدين، ولهذا كلما نظر الإنسان إلى نفسه وأصله وخلقته، وأن الله اجتباه وأحسن خلقته، وأحسن فطرته فإنه يزداد إيمانًا بالله عز وجل، وتصديقًا بكتابه وبما أخبرت به رسله‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ‏}‏ وهذا الاستفهام للتقرير يقرر الله عز وجل أنه أحكم الحاكمين، وأحكم هنا اسم تفضيل وهو مأخوذ من الحكمة، ومن الحكم، فالحكم الأكبر الأعظم الذي لا يعارضه شيء هو حكم الله عز وجل، والحكمة العليا البالغة هي حكمة الله عز وجل فهو سبحانه وتعالى أحكم الحاكمين قدرًا وشرعًا، وله الحكم، وإليه يرجع الأمر كله‏.‏ نسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم بكتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إنه على كل شيء قدير‏.‏

 تفسير سورة العلق

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ هذه الآيات أول ما نزل على الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - من القرآن الكريم، نزلت عليه وهو يتعبد في غار حراء وكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أول ما بدء بالوحي أنه يرى الرؤيا في المنام، فتأتي مثل فلق الصبح يعني يحدث ما يصدق هذه الرؤيا، وأول ما كان يرى هذه الرؤيا في ربيع الأول فبقي ستة أشهر يرى مثل هذه الرؤيا ويراها تجيء مثل فلق الصبح، وفي رمضان نزل الوحي الذي في اليقظة، والمدة بين ربيع الأول ورمضان ستة شهور، وزمن الوحي ثلاث وعشرون سنة، ولهذا جاء في الحديث ‏(‏أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جـزءًا من النبوة‏)‏، لما كان يرى هذه الرؤيا التي تجيء مثل فلق الصبح حُبب إليه الخلاء، يعني أن يخلو بنفسه ويبتعد عن هذا المجتمع الجاهلي، فرأى - صلى الله عليه وآله وسلم - أن أحسن ما يخلو به هذا الغار الذي في جبل حراء وهو غار في قمة الجبل لا يكاد يصعد إليه الإنسان القوي إلا بمشقة، فكان يصعده - صلى الله عليه وآله وسلم - ويتحنث، يتعبد لله عز وجل بما فتح الله عليه في هذا الغار الليالي ذوات العدد، يعني عدة ليال، ومعه زاد أخذه يتزود به من طعام وشراب، ثم ينزل ويتزود لمثلها من أهله، ويرجع ويتحنث لله عز وجل، إلى أن نزل عليه الوحي وهو في هذا الغار، أتاه جبريل وأمره أن يقرأ فقال‏:‏ ‏(‏ما أنا بقارئ‏)‏ ومعنى ‏(‏ما أنا بقارئ‏)‏ يعني لست من ذوي القراءة، وليس مراده المعصية لأمر جبريل، لكنه لا يستطيع، ليس من ذوي القراءة، إذ أنه - صلى الله عليه وسلّم - كان أميًّا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 58‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ فكان لا يقرأ ولا يكتب، وهذا من حكمة الله أنه لا يقرأ ولا يكتب، حتى تتبين حاجته وضرورته إلى هذه الرسالة، وحتى لا يبقى لشاك شك في صدقه، وقد أشار الله إلى هذه في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 48‏]‏‏.‏ قال له‏:‏ ‏(‏ما أنا بقارئ‏)‏ فغطه مرتين أو ثلاثًا، ثم قال له ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ خمس آيات نزلت فرجع بها النبي - صلى الله عليه وسلّم - يرجف فؤاده من الخوف والفزع حتى أتى إلى خديجة، وحديث الوحي وابتداءه موجود في أول صحيح البخاري من أحب أن يرجع إليه فليرجع يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏ قيل معناه متلبسًا بذلك، وقيل مستعينًا بذلك، يعني اقرأ مستعينًا باسم الله؛ لأن أسماء الله تعالى كلها خير، وكلها إعانة يستعين بها الإنسان، ويستعين بها على وضوئه، ويستعين بها على أكله، ويستعين بها على جماعه فهي كلها عون، وقال‏:‏ ‏{‏بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏ دون أن يقول باسم الله لأن المقام مقام ربوبية وتصرف وتدبير للأمور وابتداء رسالة فلهذا قال‏:‏ ‏{‏بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏ إلا أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - قد رباه الله تعالى تربية خاصة ورباه كذلك ربوبية خاصة‏.‏ ‏{‏خَلَقَ خَلَقَ‏}‏ أي خلق كل شيء كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 2‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 62‏]‏‏.‏ فما من شيء في السماء ولا في الأرض، من خفي وظاهر، وصغير وكبير إلا وهو مخلوق لله عز وجل ولهذا قال‏:‏ ‏{‏خَلَقَ‏}‏ وحذف المفعول إشارة للعموم؛ لأن حذف المفعول يفيد العموم، إذ لو ذكر المفعول لتقيد الفعل به، لو قال خلق كذا تقيد الخلق بما ذكر فقط، لكن إذا قال ‏{‏خَلَقَ‏}‏ وأطلق صار عامًّا فهو خالق كل شيء جل وعلا‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏ خص الله تعالى خلق الإنسان تكريمًا للإنسان وتشريفًا له؛ لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 70‏]‏‏.‏ فلهذا نص على خلق الإنسان ‏{‏خَلَقَ الإِنسَانَ‏}‏ أي ابتدأ خلقه ‏{‏مِنْ عَلَقٍ‏}‏ جمع، أو اسم جمع علقة، كشجر اسم جمع شجرة، والعلق عبارة عن دودة حمراء من الدم صغيرة وهذا هو المنشأ الذي به الحياة؛ لأن الإنسان دم لو تفرغ من الدم لهلك‏.‏ وقد بين الله عز وجل أنه خلق الإنسان من علق، ولكنه يتطور، وبين في آيات أخرى أنه خلق الإنسان من تراب، وفي آيات أخرى خلقه من طين، وفي آيات أخرى من صلصال كالفخار، وفي آيات أخرى من ماء دافق، وفي آيات أخرى من ماء مهين، وفي هذه الآية من علق فهل في هذا تناقض‏؟‏ الجواب‏:‏ ليس هناك تناقض، ولا يمكن أن يكون في كلام الله تعالى، أو ما صح عن رسوله - صلى الله عليه وسلّم - شيء من التناقض أبدًا، فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 82‏]‏‏.‏ لكنه سبحانه وتعالى يذكر أحيانًا مبدأ الخلق من وجه، ومبدأ الخلق من وجه آخر، فخلقه من تراب؛ لأن أول ما خلق الإنسان من التراب ثم صب عليه الماء فكان طينًا ثم استمر مدة فكان حمئًا مسنونًا، ثم طالت مدته فكان صلصالًا، يعني إذا ضربته بيدك تسمع له صلصلة كالفخار، ثم خلقه عز وجل لحمًا، وعظمًا، وعصبًا إلى آخره، هذا ابتداء الخلق المتعلق بآدم‏.‏ والخلق الاخر من بنيه أول منشئهم من نطفة، وهي الماء المهين وهي الماء الدافق، هذه النطفة تبقى في الرحم أربعين يومًا، ثم تتحول شيئًا فشيئًا وبتمام الأربعين تتقلب بالتطور والتدريج حتى تكون دمًا علقة، ثم تبدأ بالنمو والثخونة وتتطور شيئًا فشيئًا، فإذا تمت ثمانين يومًا انتقلت إلى مضغة - قطعة من لحم بقدر ما يمضغه الإنسان - وتبقى كذلك أربعين يومًا فهذه مائة وعشرون يومًا، وهي بالأشهر أربعة أشهر، بعد أربعة أشهر يبعث الله إليه الملك الموكل بالأرحام، فينفخ فيه الروح، فتدخل الروح في الجسد بإذن الله عز وجل، والروح لا نستطيع أن نعرف كنهها وحقيقتها ومادتها، أما الجسد فأصله من التراب، ثم في أرحام النساء من النطفة، لكن الروح لا نعرف من أي جوهر هي‏؟‏ ولا من أي مادة ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏ فينفخ الملك الروح في هذا الجنين فيبدأ يتحرك، لأن نماءه الأول كنماء الأشجار بدون إحساس، بعد أن تنتفخ فيه الروح يكون آدميًا يتحرك، ولهذا إذا سقط الحمل من البطن قبل أربعة أشهر دفن في أي مكان من الأرض، بدون تغسيل، ولا تكفين، ولا صلاة عليه، ولا يبعث؛ لأنه ليس آدميًّا، وبعد أربعة أشهر إذا سقط يجب أن يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن في المقابر؛ لأنه صار إنسانًا، ويسمى أيضًا؛ لأنه يوم القيامة سيدعى باسمه، ويعق عنه، لكن العقيقة عنه ليست في التأكيد كالعقيقة عمن بلغ سبعة أيام بعد خروجه، على كل حال هذا الجنين في بطن أمه يتطور حتى يكون بشرًا، ثم يأذن الله عز وجل له بعد المدة التي أكثر ما تكون عادة تسعة أشهر فيخرج إلى الدنيا‏.‏ وبهذه المناسبة أبين أن للإنسان أربع دور‏:‏ الدار الأولى‏:‏ في بطن أمه‏.‏ الدار الثانية‏:‏ في الدنيا‏.‏ الدار الثالثة‏:‏ في البرزخ‏.‏ الدار الرابعة‏:‏ في الجنة أو النار وهي المنتهى‏.‏ ‏{‏اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ‏}‏ ‏{‏اقْرَأْ‏}‏ تكرار للأولى لكن هل هي توكيد أو هي تأسيس‏؟‏ الصحيح أنها تأسيس وأن الأولى ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ قرنت بما يتعلق بالربوبية، و‏{‏اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ‏}‏ قرنت بما يتعلق بالشرع، فالأولى بما يتعلق بالقدر، والثانية بما يتعلق بالشرع، لأن التعليم بالقلم أكثر ما يعتمد الشرع عليه، إذ أن الشرع يكتب ويحفظ، والقرآن يكتب ويحفظ، والسنة تكتب وتحفظ، وكلام العلماء، يكتب ويحفظ، فلهذا أعادها الله مرة ثانية‏.‏

{‏كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَه سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ‏}‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى‏}‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ في القرآن الكريم ترد على عدة معاني منها‏:‏ أن تكون بمعنى حقًّا كما في هذه الآية فـ‏{‏كَلاَّ‏}‏ بمعنى حقًّا، يعني أن الله تعالى يثبت هذا إثباتًا لا مرية فيه ‏{‏إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى‏}‏ الإنسان هنا ليس شخصًا معينًا، بل المراد الجنس، كل إنسان من بني آدم إذا رأى نفسه استغنى فإنه يطغى، من الطغيان وهو مجاوزة الحد، إذا رأى أنه استغنى عن رحمة الله طغى ولم يبالِ، إذا رأى أنه استغنى عن الله عز وجل في كشف الكربات وحصول المطلوبات صار لا يلتفت إلى الله ولا يبالي، إذا رأى أنه استغنى بالصحة نسي المرض، وإذا رأى أنه استغنى بالشبع نسي الجوع، إذا رأى أنه استغنى بالكسوة نسي العري، وهكذا فالإنسان من طبيعته الطغيان والتمرد متى رأى نفسه في غنى، ولكن هذا يخرج منه المؤمن، لأن المؤمن لا يرى أنه استغنى عن الله طرفة عين، فهو دائمًا مفتقر إلى الله سبحانه وتعالى، يسأل ربه كل حاجة، ويلجأ إليه عند كل مكروه، ويرى أنه إن وكله الله إلى نفسه وكله إلى ضعف وعجز وعورة، وأنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضًّرا، هذا هو المؤمن، لكن الإنسان من حيث هو إنسان من طبيعته الطغيان، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 72‏]‏‏.‏ ثم قال عز وجل مهددًا هذا الطاغية ‏{‏إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى‏}‏ أي المرجع يعني مهما طغيت وعلوت واستكبرت واستغنيت فإن مرجعك إلى الله عز وجل، كما قال الله تبارك وتعالى ‏{‏إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 23 - 26‏]‏‏.‏ وإذا كان المرجع إلى الله في كل الأمور فإنه لا يمكن لأحد أن يفر من قضاء الله أبدًا، ولا من ثواب الله وعدله، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى‏}‏ ربما نقول إنه أعم من الوعيد والتهديد يعني أنه يشمل الوعيد والتهديد، ويشمل ما هو أعم فيكون المعنى أن إلى الله المرجع في كل شيء في الأمور الشرعية التحاكم إلى الكتاب والسنة ‏{‏فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏‏.‏ والأمور الكونية المرجع فيها إلى الله ‏{‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 9‏]‏‏.‏ فلا رجوع للعبد إلا إلى الله، كل الأمور ترجع إلى الله عز وجل، يفعل ما يشاء، حتى ما يحصل بين الناس من الحروب والفتن والشرور فإن الله هو الذي قدرها، لكنه قدرها لحكمة كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏ إذن ‏{‏إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى‏}‏ يكون فيها تهديد لهذا الإنسان الذي طغى حين رأى نفسه مستغنيًا عن ربه، وفيها أيضًا ما هو أشمل وأعم وهو أن المرجع إلى الله تعالى في كل الأمور‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى‏}‏ يعني أخبرني عن حال هذا الرجل وتعجب من حال هذا الرجل الذي ينهى عبدًا إذا صلى، ففي الآية ناهي ومنهي، فالناهي هو طاغية قريش أبو جهل، وكان يسمى في قريش أبا الحكم؛ لأنهم يتحاكمون إليه، ويرجعون إليه فاغتر بنفسه، وشرق بالإسلام ومات على الكفر كما هو معروف، هذا الرجل سماه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبا جهل ضد تسميتهم إياه أبا الحكم‏.‏ وأما المنهي فهو محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو العبد ‏{‏عَبْدًا إِذَا صَلَّى‏}‏ أبو جهل قيل له‏:‏ إن محمدًا يصلي عند الكعبة أمام الناس، يفتن الناس ويصدهم عن أصنامهم وآلهتهم، فمر به ذات يوم وهو ساجد فنهى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقال‏:‏ لقد نهيتك فلماذا تفعل‏؟‏ فانتهره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فرجع، ثم قيل لأبي جهل إنه أي محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم مازال يصلي فقال‏:‏ والله لئن رأيته لأطأن عنقه بقدمي، ولأعفرن وجهه بالتراب، فلما رآه ذات يوم ساجدًا تحت الكعبة وأقبل عليه يريد أن يبر بيمينه وقسمه، لما أقبل عليه وجد بينه وبينه خندقًا من النار وأهوالًا عظيمة، فنكص على عقبيه وعجز أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذا العبد الذي ينهى عبدًا إذا صلى يتعجب من حاله كيف يفعل هذا‏؟‏ ولهذا جاء في آخر الآيات ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى‏}‏ وأنه سيجازيه ثم قال‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى‏}‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ‏}‏ يعني أخبرني أيها المخاطب إن كان هذا الساجد محمد - صلى الله عليه وسلّم - على الهدى فكيف تنهاه عنه‏.‏ ‏{‏أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى‏}‏ قال بعض المفسرين ‏{‏أَوْ‏}‏ هنا بمعنى الواو يعني وأمر بالتقوى، ولكن الصحيح أنها على بابها للتنويع، يعني أرأيت إن كان على الهدى فيما فعل من السجود والصلاة، أو أمر غيره بالتقوى؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يأمر بالتقوى بلا شك فهو صالح بنفسه مصلح لغيره‏.‏ ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى‏}‏ يعني يرى المنهي وهو الساجد محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم الامر بالتقوى ويرى هذا العبد الطاغية الذي ينهى عبدًا إذا صلى ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى‏}‏ يرى سبحانه وتعالى علمًا ورؤية، فهو سبحانه يرى كل شيء مهما خفي ودق، ويعلم كل شيء مهما بعد، ومهما كثر أو قل، فيعلم الامر والناهي ويعلم المصلي والساجد، ويعلم من طغى، ومن خضع لله عز وجل، وسيجازي كل إنسان بعمله، والمقصود من هذا تهديد الذي ينهى عبدًا إذا صلى، وبيان أن الله تعالى يعلم بحاله، وحال من ينهاه، وسيجازي كلًا منهما بما يستحق‏.‏ فهذا تهديد لهذا الرجل الذي كان ينهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الصلاة، يعني ألم يعلم هذا الرجل أن الله تعالى يراه ويعلمه، وهو سبحانه وتعالى محيط بعمله، فيجازيه عليه إما في الدنيا، وإما في الدنيا والاخرة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ‏}‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ هذه بمعنى حقًّا، ويحتمل أن تكون للردع، أي لردعه عن فعله السيىء الذي كان يقوم به تجاه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو بمعنى حقًّا ‏{‏لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ‏}‏ جملة ‏{‏لَنَسْفَعًا‏}‏ جواب لقسم مقدر والتقدير‏:‏ والله لئن لم ينته لنسفعن بالناصية، وحذف جواب الشرط وبقي جواب القسم، لأن هذه هي القاعدة في اللغة العربية أنه إذا اجتمع قسم وشرط فإنه يحذف جواب المتأخر، قال ابن مالك في ألفيته‏:‏ واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزموهنا المتأخر هو الشرط ‏{‏لَئِن‏}‏ والقسم مقدر قبله إذ تقديره‏:‏ والله لئن لم ينته لنسفعن، ومعنى ‏{‏لَنَسْفَعًا‏}‏ أي لنأخذن بشدة و‏{‏النَّاصِيَةِ‏}‏ مقدم الرأس و‏(‏الـ‏)‏ فيها أي‏:‏ في الناصية للعهد الذهني، والمراد بالناصية هنا ناصية أبي جهل الذي توعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على صلاته ونهاه عنها، أي لنسفعن بناصيته، وهل المراد الأخذ بالناصية في الدنيا، أو في الاخرة يجر بناصيته إلى النار‏؟‏ يحتمل هذا وهذا، يحتمل أنه يؤخذ بالناصية وقد أخذ بناصيته في يوم بدر حين قتل مع من قتل من المشركين، ويحتمل أن يكون يؤخذ بناصيته يوم القيامة فيقذف في النار كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وإذا كانت الآية صالحة لمعنيين لا يناقض أحدهما الاخر فإن الواجب حملها على المعنيين جميعًا كما هو المعروف والذي قررناه سابقًا وهو أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين لا ينافي أحدهما الاخر فالواجب الأخذ بالمعنيين جميعًا‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ‏}‏ ناصية بدل من الناصية الأولى، وهي بدل نكرة من معرفة، وهي جائزة في اللغة العربية وإنما قال‏:‏ ‏{‏نَاصِيَةٍ‏}‏ من أجل أن يكون ذلك توطئة للوصف الاتي بعدها وهو قوله ‏{‏كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ‏}‏ ‏{‏كَاذِبَةٍ‏}‏ أي أنها موصوفة بالكذب، ولا شك أن من أكبر ما يكون كذبًا ما يحصل من الكفار الذين يدعون أن مع الله ألهة أخرى، فإن هذا أكذب القول وأقبح الفعل، ‏{‏خَاطِئَةٍ‏}‏ أي مرتكبة للخطأ عمدًا، وليعلم أن هناك فرقًا بين خاطىء ومخطىء، الخاطىء من ارتكب الخطأ عمدًا، والمخطىء من ارتكبه جهلًا، والثاني معذور، والأول غير معذور، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُونَ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 37‏]‏‏.‏ أي المذنبون ذنبًا عن عمد، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏‏.‏ فقال الله قد فعلت، ومثل ذلك القاسط والمقسط، القاسط هو الجائر، والمقسط هو العادل، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 15‏]‏‏.‏ إذًا ‏{‏خَاطِئَةٍ‏}‏ أي مرتكبة للإثم عمدًا‏.‏ ‏{‏فَلْيَدْعُ نَادِيَه‏}‏ اللام هنا للتحدي، يعني إن كان صادقًا وعنده قوة، وعنده قدرة فليدع ناديه، والنادي هو مجتمع القوم للتحدث بينهم والتخاطب والتفاهم والاستئناس بعضهم ببعض، وكان أبو جهل معظمًا في قريش، وله نادي يجتمع الناس إليه فيه، ويتكلمون في شؤونهم فهنا يقول الله عز وجل إن كان صادقًا فليدع ناديه، وهذا لا شك أنه تحدي، كما تقول لعدوك إن كان لك قوم فتقدم وما أشبه ذلك من الكلمات الدالة على التحدي‏.‏ ‏{‏فَلْيَدْعُ نَادِيَه‏}‏ يعني عندنا من هم أعظم من نادي هذا الرجل وهم الزبانية ملائكة النار، وقد وصف الله ملائكة النار بأنهم غلاظ شداد، غلاظ في الطباع، شداد في القوة ‏{‏لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏‏.‏ بل يمتثلون كل ما أمرهم الله به ‏{‏وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ لا يعجزون عن ذلك فوصفهم بوصفين أنهم في تمام الانقياد لله عز وجل ‏{‏لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ‏}‏ وأنهم في تمام القدرة ‏{‏وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ وعدم تنفيذ أمر الله عز وجل إما أن يكون للعجز، وإما أن يكون للمعصية، فمثلًا الذي لا يصلي الفرض قائمًا قد يكون للعجز، وقد يكون للعناد فهو لا ينفذ أمر الله، لكن الملائكة الذين على النار ليس عندهم عجز، بل عندهم قوة وقدرة، وليس عندهم استكبار عن الأمر، بل عندهم تمام التذلل والخضوع، هؤلاء الزبانية لا يمكن لهذا وقومه وناديه أن يقابلوهم أبدًا ولهذا قال‏:‏ ‏{‏سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ‏}‏ فإن قال قائل‏:‏ أين الواو في قوله ‏{‏سَنَدْعُ‏}‏‏؟‏ قلنا‏:‏ إنها محذوفة لالتقاء الساكنين، لأن الواو ساكنة والهمزة همزة الوصل ساكنة، وإذا التقى ساكنان فإنه إن كان الحرف صحيحًا كسر، وإن كان غير صحيح حذف، قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته‏:‏ إن ساكنان التقيا اكسر ما سبق وإن يكن لينًا فحذفه استحقيعني إذا التقى ساكنان إن كان الحرف الأول صحيحًا ليس من حروف العلة كسر مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ وأصلها ‏{‏لَمْ يَكُنِ‏}‏ لأن لم إذا دخلت على الفعل جزمته كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ لكن هنا التقى ساكنان، وكان الأول حرفًا صحيحًا فكسر، أما إذا كان الأول حرف لين، يعني حرف من حروف العلة فإنه يحذف كما في هذه الآية ‏{‏سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ‏}‏‏.‏ ‏{‏كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ‏}‏ يقال في ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ما قيل في الأولى التي قبلها والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏لا تُطِعْهُ‏}‏ أي لا تطع هذا الذي ينهاك عن الصلاة، بل اسجد ولا تبالي به، وإذا كان الله نهى نبيه - صلى الله عليه وسلّم - أن يطيع هذا الرجل فهذا يعني أنه جل وعلا سيدافع عنه، يعني افعل ما تؤمر ولا يهمنك هذا الرجل، واسجد لله عز وجل، والمراد بالسجود هنا الصلاة، لكن عبر بالسجود عن الصلاة لأن السجود ركن في الصلاة لا تصح إلا به، فلهذا عبر به عنها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَاقْتَرِبْ‏}‏ أي اقترب من الله عز وجل؛ لأن الساجد أقرب ما يكون من ربه كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال‏:‏ ‏(‏أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد‏)‏، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم‏)‏، أي حري أن يستجاب لكم‏.‏ هذه السورة ‏(‏العلق‏)‏ سورة عظيمة ابتدأها الله تعالى بما منّ به على رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - من الوحي، ثم اختتمها بالسجود والاقتراب من الله عز وجل، نسأل الله تعالى أن يرزقنا القيام بطاعته والقرب منه، وأن يجعلنا من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، وعباده الصالحين، إنه على كل شيء قدير‏.‏

 تفسير سورة القدر

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ‏}‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ‏}‏ الضمير هنا يعود إلى الله عز وجل، والهاء في قوله ‏{‏أَنزَلْنَاهُ‏}‏ يعود إلى القرآن، وذكر الله تعالى نفسه بالعظمة ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ‏}‏ لأنه سبحانه وتعالى العظيم الذي لا شيء أعظم منه، والله تعالى يذكر نفسه أحيانًا بصيغة العظمة مثل هذه الآية الكريمة ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ‏}‏ ومثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏‏.‏ ومثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وأحيانًا يذكر نفسه بصيغة الواحد مثل ‏{‏إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وذلك لأنه واحد عظيم، فباعتبار الصفة يأتي ضمير العظمة، وباعتبار الوحدانية يأتي ضمير الواحد‏.‏ والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏أَنزَلْنَاهُ‏}‏ ضمير المفعول به وهي الهاء يعود إلى القرآن وإن لم يسبق له ذكر؛ لأن هذا أمر معلوم، ولا يمتري أحد في أن المراد بذلك إنزال القرآن الكريم، أنزله الله تعالى في ليلة القدر فما معنى إنزاله في ليلة القدر‏؟‏ الصحيح أن معناها‏:‏ ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر، وليلة القدر في رمضان لا شك في هذا ودليل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏ فإذا جمعت هذه الآية أعني ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ‏}‏ إلى هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ‏}‏ تبين أن ليلة القدر في رمضان، وبهذا نعرف أن ما اشتهر عند بعض العامة من أن ليلة القدر هي ليلة النصف من شهر شعبان لا أصل له، ولا حقيقة له، فإن ليلة القدر في رمضان، وليلة النصف من شعبان كليلة النصف من رجب، وجمادى، وربيع، وصفر، ومحرم وغيرهن من الشهور لا تختص بشيء، حتى ما ورد في فضل القيام فيها فهو أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، وكذلك ما ورد من تخصيص يومها وهو يوم النصف من شعبان بصيام فإنها أحاديث ضعيفة لا تقوم بها حجة، لكن بعض العلماء - رحمهم الله - يتساهلون في ذكر الأحاديث الضعيفة فيما يتعلق بالفضائل‏:‏ فضائل الأعمال، أو الشهور، أو الأماكن وهذا أمر لا ينبغي، وذلك لأنك إذا سقت الأحاديث الضعيفة في فضل شيء ما، فإن السامع سوف يعتقد أن ذلك صحيح، وينسبه إلى الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وهذا شيء كبير، فالمهم أن يوم النصف من شعبان وليلة النصف من شعبان لا يختصان بشيء دون سائر الشهور، فليلة النصف لا تختص بفضل قيام، وليلة النصف ليست ليلة القدر، ويوم النصف لا يختص بصيام، نعم شهر شعبان ثبتت السنة بأن النبي - صلى الله عليه وسلّم - يكثر الصيام فيه حتى لا يفطر منه إلا قليلًا وما سوى ذلك مما يتعلق بصيامه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلّم - إلا ما لسائر الشهور كفضل صوم ثلاثة أيام من كل شهر وأن تكون في الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، وهي أيام البيض‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ‏}‏ من العلماء من قال‏:‏ القدر هو الشرف كما يقال ‏(‏فلان ذو قدر عظيم، أو ذو قدر كبير‏)‏ أي ذو شرف كبير، ومن العلماء من قال‏:‏ المراد بالقدر التقدير، لأنه يقدر فيها ما يكون في السنة لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏ أي يفصل ويبين‏.‏ والصحيح أنه شامل للمعنيين، فليلة القدر لا شك أنها ذات قدر عظيم، وشرف كبير، وأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من الإحياء والإماتة والأرزاق وغير ذلك‏.‏ ثم قال جل وعلا‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ‏}‏ هذه الجملة بهذه الصيغة يستفاد منها التعظيم والتفخيم، وهي مطردة في القرآن الكريم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 1 - 3‏]‏‏.‏ ‏{‏الْقَارِعَة مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ‏}‏ فهذه الصيغة تعني التفخيم والتعظيم فهنا قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ‏}‏ أي ما أعلمك ليلة القدر وشأنها وشرفها وعظمها، ثم بين هذا بقوله‏:‏ ‏{‏لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏ وهذه الجملة كالجواب للاستفهام الذي سبقها، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ‏}‏ الجواب‏:‏ ‏{‏لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏ أي من ألف شهر ليس فيه ليلة القدر، والمراد بالخيرية هنا ثواب العمل فيها، وما ينزل الله تعالى فيها من الخير والبركة على هذه الأمة، ولذلك كان من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ثم ذكر ما يحدث في تلك الليلة فقال‏:‏ ‏{‏تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا‏}‏ أي تنزل شيئًا فشيئًا؛ لأن الملائكة سكان السموات، والسموات سبع فتتنزل الملائكة إلى الأرض شيئًا فشيئًا حتى تملأ الأرض، ونزول الملائكة في الأرض عنوان على الرحمة والخير والبركة، ولهذا إذا امتنعت الملائكة من دخول شيء كان ذلك دليلًا على أن هذا المكان الذي امتنعت الملائكة من دخوله قد يخلو من الخير والبركة كالمكان الذي فيه الصور، فإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة، يعني صورة محرمة؛ لأن الصورة إذا كانت ممتهنة في فراش أو مخدة، فأكثر العلماء على أنها جائزة، وعلى هذا فلا تمتنع الملائكة من دخول المكان، لأنه لو امتنعت لكان ذلك ممنوعًا، فالملائكة تتنزل في ليلة القدر بكثرة، ونزولهم خير وبركة‏.‏ ‏{‏وَالرُّوحُ‏}‏ هو جبريل عليه السلام خصه الله بالذكر لشرفه وفضله، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِإِذْنِ رَبِّهِم‏}‏ أي بأمره، والمراد به الإذن الكوني؛ لأن إذن الله - أي أمره - ينقسم إلى قسمين‏:‏ إذن كوني، وإذن شرعي، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 21‏]‏‏.‏ أي ما لم يأذن به شرعًا، لأنه قد أذن به قدرًا، فقد شرع من دون الله، لكنه ليس بإذن الله الشرعي، وإذن قدري كما في هذه الآية ‏{‏بِإِذْنِ رَبِّهِم‏}‏ أي بأمره القدري وقوله‏:‏ ‏{‏مِّن كُلِّ أَمْرٍ‏}‏ قيل إن ‏{‏مِنْ‏}‏ بمعنى الباء أي بكل أمر مما يأمرهم الله به، وهو مبهم لا نعلم ما هو، لكننا نقول إن تنزل الملائكة في الأرض عنوان على الخير والرحمة والبركة‏.‏ ‏{‏سَلامٌ هِيَ‏}‏ الجملة هنا مكونة من مبتدأ وخبر، والخبر فيها مقدم، والتقدير‏:‏ ‏"‏هي سلام‏"‏ أي هذه الليلة سلام، ووصفها الله تعالى بالسلام، لكثرة من يسلم فيها من الاثام وعقوباتها، قال النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏، ومغفرة الذنوب لا شك أنها سلامة من وبائها وعقوباتها‏.‏ ‏{‏حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ‏}‏ أي تتنزل الملائكة في هذه الليلة حتى مطلع الفجر، أي إلى مطلع الفجر، وإذا طلع الفجر انتهت ليلة القدر‏.‏ تنبيه‏:‏ سبق أن قلنا إن ليلة القدر في رمضان، لكن في أي جزء من رمضان أفي أوله، أو وسطه، أو آخره‏؟‏ نقول في الجواب على هذا‏:‏ إن النبي - صلى الله عليه وسلّم - اعتكف العشر الأول، ثم العشر الأوسط تحريًا لليلة القدر، ثم قيل له‏:‏ إنها في العشر الأواخر فاعتكف العشر الأواخر، إذًا فليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان‏.‏ وفي أي ليلة منها‏؟‏ الله أعلم قد تكون في ليلة إحدى وعشرين، أو في ليلة الثلاثين، أو فيما بينهما، فلم يأت تحديد لها في ليلة معينة كل عام، ولهذا أري النبي - صلى الله عليه وسلّم - ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين ورأى في المنام أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين، فأمطرت السماء تلك الليلة أي ليلة إحدى وعشرين، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلّم - في مسجده، وكان مسجده من عريش لا يمنع تسرب الماء من السقف، فسجد النبي - صلى الله عليه وسلّم - صباحها أي في صلاة الفجر في الماء والطين، ورأى الصحابة رضي الله عنهم على جبهته أثر الماء والطين، ففي تلك الليلة كانت في ليلة إحدى وعشرين، ومع ذلك قال‏:‏ ‏(‏التمسوها في العشر الأواخر‏)‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏في الوتر من العشر الأواخر‏)‏، ورآها الصحابة ذات سنة من السنين في السبع الأواخر، فقال - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر‏)‏، يعني في تلك السنة، أما في بقية الأعوام فهي في كل العشر، فليست معينة، ولكن أرجاها ليلة سبع وعشرين، وقد تكون ‏(‏مثلًا‏)‏ في هذا العام ليلة سبع وعشرين، وفي العام الثاني ليلة إحدى وعشرين، وفي العام الثالث ليلة خمس وعشرين وهكذا‏.‏‏.‏ وإنما أبهمها الله عز وجل لفائدتين عظيمتين‏:‏ الفائدة الأولى‏:‏ بيان الصادق في طلبها من المتكاسل، لأن الصادق في طلبها لا يهمه أن يتعب عشر ليال من أجل أن يدركها، والمتكاسل يكسل أن يقوم عشر ليال من أجل ليلة واحدة‏.‏ الفائدة الثانية‏:‏ كثرة ثواب المسلمين بكثرة الأعمال؛ لأنه كلما كثر العمل كثر الثواب‏.‏ وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى غلط كثير من الناس في الوقت الحاضر حيث يتحرون ليلة سبع وعشرين في أداء العمرة، فإنك في ليلة سبع وعشرين تجد المسجد الحرام قد غص بالناس وكثروا، وتخصيص ليلة سبع وعشرين بالعمرة من البدع، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - لم يخصصها بعمرة في فعله، ولم يخصصها أي ليلة سبع وعشرين بعمرة في قوله، فلم يعتمر ليلة سبع وعشرين من رمضان مع أنه في عام الفتح ليلة سبع وعشرين من رمضان كان في مكة ولم يعتمر، ولم يقل للأمة تحروا ليلة سبع وعشرين بالعمرة، وإنما أمر أن نتحرى ليلة سبع وعشرين بالقيام فيها لا بالعمرة، وبه يتبين خطأ كثير من الناس، وبه أيضًا يتبين أن الناس ربما يأخذون دينهم كابرًا عن كابر، على غير أساس من الشرع، فاحذر أن تعبد الله إلا على بصيرة، بدليل من كتاب الله، أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلّم - أو عمل الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباع سنتهم‏.‏

وفي هذه السورة الكريمة فضائل متعددة لليلة القدر‏:‏ الفضيلة الأولى‏:‏ أن الله أنزل فيها القرآن الذي به هداية البشر وسعادتهم في الدنيا والاخرة‏.‏ الفضيلة الثانية‏:‏ ما يدل عليه الاستفهام من التفخيم والتعظيم في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ‏}‏‏.‏ الفضيلة الثالثة‏:‏ أنها خير من ألف شهر‏.‏ الفضيلة الرابعة‏:‏ أن الملائكة تتنزل فيها، وهم لا ينزلون إلا بالخير والبركة والرحمة‏.‏ الفضيلة الخامسة‏:‏ أنها سلام، لكثرة السلامة فيها من العقاب والعذاب بما يقوم به العبد من طاعة الله عز وجل‏.‏ الفضيلة السادسة‏:‏ أن الله أنزل في فضلها سورة كاملة تتلى إلى يوم القيامة‏.‏ ومن فضائل ليلة القدر ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال‏:‏ ‏(‏من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏، فقوله‏:‏ ‏"‏إيمانًا واحتسابًا‏"‏ يعني إيمانًا بالله وبما أعد الله من الثواب للقائمين فيها، واحتسابًا للأجر وطلب الثواب‏.‏ وهذا حاصل لمن علم بها ومن لم يعلم، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يشترط العلم بها في حصول هذا الأجر‏.‏ وبهذا انتهى الكلام على سورة القدر‏.‏

 تفسير سورة البينة

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ‏}‏ يعني ما كان الكفار من ‏{‏أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏ وهم اليهود والنصارى، سموا بذلك لأن صحفهم بقيت إلى أن بعث النبي - صلى الله عليه وسلّم - مع ما فيها من التحريف والتبديل والتغيير، ولكن هم أهل الكتاب، فاليهود لهم التوراة، والنصارى لهم الإنجيل ‏{‏وَالْمُشْرِكِينَ‏}‏ المشركون هم عبدة الأوثان من كل جنس من بني إسرائيل ومن غيرهم، لم يكن هؤلاء ‏{‏مُنفَكِّينَ‏}‏ أي تاركين لما هم عليه من الشرك والكفر ومنفكين عنه ‏{‏حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ والبينة ما يبين به الحق في كل شيء، فكل شيء يبين به الحق فإنه يسمى بينة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏البينة على المدعي‏)‏، فكل ما بان به الحق فهو بينة، ويكون في كل شيء بحسبه، فما هي البينة التي ذكرها الله هنا‏؟‏ البينة قال ‏{‏رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ‏}‏ وهذا الرسول هو النبي - صلى الله عليه وسلّم - محمد رسول الله ابن عبدالله الهاشمي القرشي صلوات الله وسلامه عليه، وجاء بصيغة النكرة ‏{‏رَسُولٌ‏}‏ تعظيمًا له؛ لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - جدير بأن يعظم التعظيم اللائق به من غير نقص ولا غلو ‏{‏رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ‏}‏ يعني أن الله أرسله إلى العالمين بشيرًا ونذيرًا، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏‏.‏ فهو محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - مرسل من عند الله بواسطة جبريل - صلى الله عليه وآله وسلم ـ؛ لأن جبريل هو رسول رب العالمين إلى رسله موكل بالوحي ينزل به على من شاء الله من عباده‏.‏ ‏{‏يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً‏}‏ يعني يقرأ لنفسه وللناس، ‏{‏صُحُفًا‏}‏ جمع صحيفة وهي الورقة أو اللوح أو ما أشبه ذلك مما يكتب به ‏{‏مُّطَهَّرَةً‏}‏ أي منقاة من الشرك، ومن رذائل الأخلاق، ومن كل ما يسوء، لأنها نزيهة مقدسة ‏{‏فِيهَا‏}‏ أي في هذه الصحف ‏{‏كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏}‏ كتب‏:‏ أي مكتوبات قيمة، فكتب جمع كتاب، بمعنى مكتوب، والمعنى أن في هذه الصحف مكتوبات قيمة كتبها الله عز وجل، ومن المعلوم أن الإنسان إذا تصفح القرآن وجده كذلك، وجده يتضمن كتبًا أي مكتوبات قيمة، انظر إلى ما جاء به القرآن من توحيد الله عز وجل، والثناء عليه، وحمده وتسبيحه تجده مملوءًا بذلك، انظر إلى ما في القرآن من وصف النبي - صلى الله عليه وسلّم - ووصف أصحابه المهاجرين والأنصار ووصف التابعين لهم بإحسان، انظر إلى ما جاء به القرآن من الأمر بالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة تجد أن كل ما جاء به القرآن فهو قيم بنفسه، وكذلك هو مقيم لغيره ‏{‏فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏}‏‏.‏ إذًا أخبر الله في هذه الآية أنه لا يمكن أن ينفك هؤلاء الكفار من أهل الكتاب والمشركين حتى تأتيهم البينة، فلما جاءتهم البينة هل انفكوا عن دينهم، عن كفرهم وشركهم‏؟‏ الجواب قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ يعني لما جاءتهم البينة اختلفوا، منهم من آمن، ومنهم من كفر، فمن النصارى من آمن مثل النجاشي ملك الحبشة، ومن اليهود من آمن أيضًا مثل عبدالله بن سلام - رضي الله عنه - فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، فمن علم الله منه أنه يريد الخير، ويريد الدين لله آمن ووفق للإيمان، ومن لم يكن كذلك وفق للكفر، كذلك أيضًا من المشركين من آمن، وما أكثر المشركين من قريش الذين آمنوا، فصار الناس قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يزالوا على ما هم عليه من الكفر حتى جاءتهم البينة، ثم لما جاءتهم البينة تفرقوا واختلفوا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏‏.‏

{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ‏}‏‏.‏

{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ‏}‏ بين الله تعالى في هذه الآية بيانًا مؤكدًا بـ‏(‏إن‏)‏ إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ‏{‏فِي نَارِ جَهَنَّمَ‏}‏ أي في النار التي تسمى جهنم، وسميت جهنم، لبعد قعرها وسوادها، فهو مأخوذ من الُجهمة، وقيل‏:‏ إنه اسم أعجمي عربته العرب‏.‏ وأيًّا كان فإنه أعني لفظ ‏{‏جَهَنَّمَ‏}‏ اسم من أسماء النار، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ هنا بيان للإبهام، أعني إبهام الإسم الموصول في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ وعلى هذا فيقتضي أن أهل الكتاب كفار وهم ‏(‏اليهود والنصارى‏)‏، والأمر كذلك، فإن اليهود والنصارى كفار حين لم يؤمنوا برسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإن قالوا‏:‏ إنهم مؤمنون بالله واليوم الاخر، ويدعون لموتاهم بالرحمة وما أشبه ذلك من العبارات التي يتزلفون بها فإنهم كاذبون، إذ لو كانوا يؤمنون بالله واليوم الاخر لامنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلّم - بل لامنوا برسلهم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قد وجد وصفه في التوراة والإنجيل كما قال الله تبارك وتعالى في سورة الأعراف ‏{‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏‏.‏ بل إن عيسى - صلى الله عليه وسلّم - قال لبني إسرائيل ‏{‏يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 6‏]‏‏.‏ فلما جاء هذا الرسول الذي بشر به عيسى بالبينات، قالوا‏:‏ هذا سحر مبين، وكذبوه ولم يتبعوه إلا نفرًا قليلًا من اليهود والنصارى، فقد آمنوا بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم واتبعوه‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ‏}‏ أي شر الخليقة؛ لأن البرية هي الخليقة، وعلى هذا فيكون الكفار من بني آدم من ‏(‏اليهود والنصارى والمشركين‏)‏ شر البرية ‏(‏شر الخلائق‏)‏ وقد بين الله ذلك تمامًا في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 55‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 22‏]‏‏.‏ فهؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين هم شر البرية عند الله عز وجل، وإذا كانوا هم شر البرية فلن نتوقع منهم إلا كل شر، لأن الشرير ينبثق منه الشر، ولا يمكن أبدًا أن نحسن الظن بهم، قد نثق بالصادقين منهم كما وثق النبي - صلى الله عليه وسلّم - بالمشرك، عبدالله بن أريقط، حين استأجره ليدله على طريق الهجرة، لكن غالبهم وجمهورهم لا يوثق منهم، لأنهم شر، ولما ذكر الله حكم هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين ذكر حكم المؤمنين فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ‏}‏ والقرآن الكريم مثاني تثنى فيه المعاني، فيؤتى بالمعنى وما يقابله، ويأتي بأصحاب النار وأصحاب الجنة، ويأتي بآيات الترهيب وآيات الترغيب، وهلم جرا، لأجل أن يكون الإنسان سائرًا إلى الله عز وجل بين الخوف والرجاء، ولئلا يمل، فإن تنويع الأساليب وتنويع المواضيع لا شك أنه يعطي النفس قوة واندفاعًا، بخلاف ما لو كان الكلام على وتيرة واحدة، فإن الإنسان قد يمل ولا تتحرك نفسه ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ‏}‏ فخير خلق الله عز وجل هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم على طبقات أربع بينها الله في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏‏.‏ هذه الطبقات الأربع هي طبقات المؤمنين أعلاها‏:‏ طبقة النبوة، وأعلى طبقات النبوة طبقة الرسالة، ثم بعد النبوة الصديقية، وعلى رأس الصديقين أبو بكر رضي الله عنه‏.‏ الطبقة الثالثة‏:‏ الشهداء، قيل‏:‏ إنهم أُولوا العلم‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم الذين قتلوا في سبيل الله، والآية تحتمل المعنيين جميعًا بدون مناقضة، والذي ينبغي لمفسر القرآن أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين بدون مناقضة أن يحملها على المعنيين جميعًا، فالشهداء هم أولوا العلم، وهم الذين قتلوا في سبيل الله، وكلهم مرتبتهم عالية فوق سائر المتبعين للرسل إلا الصديقين؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالصَّالِحِينَ‏}‏ وهم أدنى الطبقات، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات على اختلاف طبقاتهم هم خير البرية، أي خير ما خلق الله عز وجل من البرايا، ثم بين جزاءهم فقال ‏{‏جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ وهنا قدم الله الثناء على المؤمنين الذين عملوا الصالحات على ذكر جزائهم، لأن ثناء الله عليهم أعظم مرتبة وأعلى منقبة، فلذلك قدمه على الجزاء الذي هو جزاؤهم في يوم القيامة ‏{‏جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ ‏{‏جَنَّاتُ‏}‏ جمعها لاختلاف أنواعها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال‏:‏ إن الجنات ‏(‏جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما‏)‏، وإلى هذا يشير قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 46‏]‏‏.‏ ثم ذكـر أوصاف هاتـين الجنتين، ثم قـال‏:‏ ‏{‏وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 62‏]‏‏.‏ فلهم جنـات والجنات التي ذكرها الله تعالى جزاء للمؤمنين العاملين الصالحات هي عبارة عن منازل عظيمـة أعدهـا الله عز وجل للمؤمنين المتقين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولا يمكن لإنسان في هذه الدنيا أن يتصور كيف نعيم الاخرة أبدًا، لأنه أعلى وأجل مما نتصور، قال ابن عباس رضي الله عنهما ‏(‏ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء‏)‏، لكنها الحقائق تختلف اختلافًا عظيمًا، قال عز وجل‏:‏ ‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ‏}‏ العدن بمعنى الإقامة في المكان وعدم النزوح عنه، ومن تمام نعيم أهل الجنة أن كل واحد منهم لا يطلب تحولًا عما هو عليه من النعيم، لأنه لا يرى أن أحدًا أكمل منه، ولا يحس في قلبه أنه في غضاضة بالنسبة لمن هو أرقى منه وأكمل قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 108‏]‏‏.‏ أي لا يبغون تحولًا عما هم عليه لأن الله قد أقنعهم بما أعطاهم فلا يجدون أحدًا أكمل نعيمًا منهم، ولهذا سمى الله تعالى هذه الجنات جنات عدن ‏{‏تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ ‏{‏مِن تَحْتِهَا‏}‏ قال العلماء‏:‏ من تحت قصورها وأشجارها وإلا فهو على سطحها وليس أسفل، إنما هو من تحت هذه القصور والأشجار، والأنهار التي ذكرها الله عز وجل هنا مجملة فصلها في سورة ‏(‏محمد‏)‏ فقال‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وقد جاء في الاثار من وصف هذه الأنهار أنها تجري بغير أخدود وبغير خنادق بمعنى أن النهر يجري على سطح الأرض يتوجه حيث وجهه الإنسان، ولا يحتاج إلى شق خنادق، ولا إلى بناء أخدود تمنع سيلان الماء يمينًا وشمالًا، وفي هذا يقول ابن القيم - رحمه الله - في كتابه النونية‏:‏ أنهارها من غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان ‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا‏}‏ أي ماكثين فيها أبدًا، لا يموتون، ولا يمرضون، ولا يبأسون، ولا يألمون، ولا يحزنون، ولا يمسهم فيها نصب، فهم في أكمل النعيم دائمًا وأبدًا - أبد الابدين - ‏{‏رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ‏}‏ وهذا أكمل نعيم أن الله تعالى يرضى عنهم، فيحل عليهم رضوانه فلا يسخط بعده أبدًا، بل وينظرون إلى الله تبارك وتعالى بأعينهم كما يرون القمر ليلة البدر لا يشكون في ذلك، ولا يمترون في ذلك، ولا يتضامون في ذلك، أي لا ينضم بعضهم إلى بعض ليريه الاخر، بل كل إنسان يراه في مكانه حسب ما أراد الله عز وجل‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ‏}‏ أي ذلك الجزاء لمن خشي الله عز وجل، والخشية هي خوف الله عز وجل المقرون بالهيبة والتعظيم ولا يصدر ذلك إلا من عالم بالله كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 28‏]‏‏.‏ أي العلماء بعظمته وكمال سلطانه، فالخشية أخص من الخوف، ويتضح الفرق بينهما بالمثال‏:‏ إذا خفت من شخص لا تدري هل هو قادر عليك أم لا‏؟‏ فهذا خوف، وإذا خفت من شخص تعلم أنه قادر عليك فهذه خشية‏.‏ وبهذا تمت هذه السورة العظيمة وتم ما تيسر لنا من الكلام على تفسيرها، ونسأل الله أن يجعلنا ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته إنه على كل شيء قدير‏.‏

 تفسير سورة الزلزلة

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا‏}‏ المراد بذلك ما ذكره الله تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏زِلْزَالَهَا‏}‏ يعني الزلزال العظيم الذي لم يكن مثله قط، ولهذا يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى‏}‏ يعني من شدة ذهولهم وما أصابهم تجدهم كأنهم سكارى، وما هم بسكارى بل هم صحاة، لكن لشدة الهول صار الإنسان كأنه سكران لا يدري كيف يتصرف، ولا كيف يفعل‏.‏ ‏{‏وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا‏}‏ المراد بهم‏:‏ أصحاب القبور، فإنه إذا نفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم نفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، يخرجون من قبورهم لرب العالمين عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 6‏]‏‏.‏ ‏{‏وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا‏}‏ الإنسان المراد به الجنس، يعني أن الإنسان البشر يقول‏:‏ ما لها‏؟‏ أي شيء لها هذا الزلزال‏؟‏ ولأنه يخرج وكأنه كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏سُكَارَى‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 2‏]‏‏.‏ فيقول‏:‏ ما الذي حدث لها وما شأنها‏؟‏ لشدة الهول‏.‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ أي في ذلك اليوم إذا زلزلت ‏{‏تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا‏}‏ أي تخبر عما فعل الناس عليها من خير أو شر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن المؤذن إذا أذن فإنه لا يسمع صوته شجر، ولا مدر، ولا حجر، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة، فتشهد الأرض بما صنع عليها من خير أو شر، وهذه الشهادة من أجل بيان عدل الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى لا يؤاخذ الناس إلا بما عملوه، وإلا فإن الله تعالى بكل شيء محيط، ويكفي أن يقول لعباده جل وعلا عملتم كذا وعملتم كذا‏.‏‏.‏ لكن من باب إقامة العدل وعدم إنكار المجرم؛ لأن المجرمين ينكرون أن يكونوا مشركين، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏‏.‏ لأنهم إذا رأوا أهل التوحيد قد خلصوا من العذاب ونجوا منه أنكروا الشرك لعلهم ينجون، ولكنهم يختم على أفواههم، وتكلم الأيدي، وتشهد الأرجل والجلود والألسن كلها تشهد على الإنسان بما عمل، وحينئذ لا يستيطع أن يبقى على إنكاره بل يقر ويعترف، إلا أنه لا ينفع الندم في ذلك الوقت‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا‏}‏ هو جواب الشرط في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا‏}‏‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا‏}‏ أي بسبب أن الله أوحى لها، يعني أذن لها في أن تحدث أخبارها، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير إذا أمر شيئًا بأمر فإنه لابد أن يقع، يخاطب الله الجماد فيتكلم الجماد كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقال الله تعالى للقلم اكتب، قال‏:‏ ربِّ وماذا أكتب‏؟‏ قال‏:‏ اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة‏.‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 65‏]‏‏.‏ فالله عز وجل إذا وجه الكلام إلى شيء ولو جمادًا فإنه يخاطب الله ويتكلم ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ يعني يومئذ تزلزل الأرض زلزالها‏.‏ ‏{‏يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا‏}‏ أي جماعات متفرقين، يصدرون كل يتجه إلى مأواه، فأهل الجنة - جعلنا الله منهم - يتجهون إليها، وأهل النار - والعياذ بالله - يساقون إليها ‏{‏يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 85 - 87‏]‏‏.‏ فيصدر الناس جماعات وزمرًا على أصناف متباينة تختلف اختلافًا كبيرًا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 21‏]‏‏.‏ ‏{‏لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ‏}‏ يعني يصدرون أشتاتًا فيروا أعمالهم، يريهم الله تعالى أعمالهم إن خيرًا فخير، وإن شًّرا فشر، وذلك بالحساب وبالكتاب، فيعطى الإنسان كتابه إما بيمينه، وإما بشماله، ثم يحاسب على ضوء ما في هذا الكتاب، يحاسبه الله عز وجل، أما المؤمن فإن الله تعالى يخلو به وحده ويقرره بذنوبه ويقول‏:‏ فعلت كذا، وفعلت كذا وكذا، وفعلت كذا، حتى يقر ويعترف، فإذا رأى أنه هلك، قال الله عز وجل‏:‏ ‏(‏إني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم‏)‏، وأما الكافر - والعياذ بالله - فإنه لا يعامل هذه المعاملة بل ينادى على رؤوس الأشهاد ‏{‏هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ‏}‏ هذا مضاف والمضاف يقتضي العموم وظاهره أنهم يرون الأعمال الصغير والكبير وهو كذلك، إلا ما غفره الله من قبل بحسنات، أو دعاء أو ما أشبه ذلك فهذا يمحى كما قال الله تعالى ‏{‏إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏‏.‏ فيرى الإنسان عمله، يرى عمله القليل والكثير حتى يتبين له الأمر جليًّا ويعطى كتابه ويقال‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 64‏]‏‏.‏ ولهذا يجب على الإنسان أن لا يقدم على شيء لا يرضي الله عز وجل؛ لأنه يعلم أنه مكتوب عليه، وأنه سوف يحاسب عليه‏.‏ ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ ‏{‏مَن‏}‏ شرطية تفيد العموم، يعني‏:‏ أي إنسان يعمل مثقال ذرة فإنه سيراه، سواء من الخير، أو من الشر ‏{‏مِثْقَالَ ذَرَّةٍ‏}‏ يعني وزن ذرة، والمراد بالذرة‏:‏ صغار النمل كما هو معروف، وليس المراد بالذرة‏:‏ الذرة المتعارف عليها اليوم كما ادعاه بعضهم، لأن هذه الذرة المتعارف عليها اليوم ليست معروفة في ذلك الوقت، والله عز وجل لا يخاطب الناس إلا بما يفهمون، وإنما ذكر الذرة لأنها مضرب المثل في القلة، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 40‏]‏‏.‏ ومن المعلوم أن من عمل ولو أدنى من الذرة فإنه سوف يجده، لكن لما كانت الذرة مضرب المثل في القلة قال الله تعالى ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ‏}‏‏.‏ وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏مِثْقَالَ ذَرَّةٍ‏}‏ يفيد أن الذي يوزن هو الأعمال، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم‏:‏ فمن العلماء من قال‏:‏ إن الذي يوزن العمل‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ إن الذي يوزن صحائف الأعمال‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ إن الذي يوزن هو العامل نفسه‏.‏ ولكل دليل، أما من قال‏:‏ إن الذي يوزن هو العمل فاستدل بهذه الآية ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ‏}‏ لأن تقدير الآية فمن يعمل عملًا مثقال ذرة‏.‏ واستدلوا أيضًا بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏(‏كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم‏)‏‏.‏ لكن يشكل على هذا أن العمل ليس جسمًا يمكن أن يوضع في الميزان بل العمل عمل انتهى وانقضى‏.‏ ويجاب عن هذا بأن يقال‏:‏ أولًا‏:‏ على المرء أن يصدق بما أخبر الله تعالى به ورسوله - صلى الله عليه وسلّم - من أمور الغيب، وإن كان عقله قد يحار فيه، ويتعجب ويقول كيف يكون هذا‏؟‏ فعليه التصديق لأن قدرة الله تعالى فوق ما نتصور، فالواجب على المسلم أن يسلم ويستسلم ولا يقول كيف‏؟‏ لأن أمور الغيب فوق ما يتصور‏.‏ ثانيًا‏:‏ أن الله تعالى يجعل هذه الأعمال أجسامًا توضع في الميزان وتثقل وتخف، والله تعالى قادر على أن يجعل الأمور المعنوية أجسامًا، كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلّم - في أن الموت يؤتى به على صورة كبش ويوقف بين الجنة والنار فيقال‏:‏ يا أهل الجنة فيشرئبون ويطلعون ويقال‏:‏ يا أهل النار فيشرئبون ويطلعون فيقال لهم‏:‏ هل تعرفون هذا‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم، هذا الموت، مع أنه في صورة كبش والموت ‏(‏معنى‏)‏ ليس جسمًا ولكن الله تعالى يجعله جسمًا يوم القيامة، فيقولون‏:‏ هذا الموت فيذبح أمامهم ويقال‏:‏ يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت، وبهذا يزول الإشكال الوارد على هذا القول‏.‏ أما من قال‏:‏ إن الذي يوزن هو صحائف الأعمال فاستدلوا بحديث صاحب البطاقة الذي يؤتى يوم القيامة به، ويقال‏:‏ انظر إلى عملك فتمد له سجلات مكتوب فيها العمل السيىء، سجلات عظيمة، فإذا رأى أنه قد هلك أتي ببطاقة صغيرة فيها لا إله إلا الله فيقول‏:‏ يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات‏؟‏ فيقال له‏:‏ إنك لا تظلم شيئًا، ثم توزن البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فترجح بهن البطاقة وهي لا إله إلا الله قالوا فهذا دليل على أن الذي يوزن هو صحائف الأعمال‏.‏ وأما الذين قالوا‏:‏ إن الذي يوزن هو العامل نفسه فاستدلوا بحديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان ذات يوم مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهبت ريح شديدة، فقام عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فجعلت الريح تكفئه؛ لأنه نحيف القدمين والساقين، فجعل الناس يضحكون، فقال النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏مما تضحكون‏؟‏ أو مما تعجبون‏؟‏ والذي نفسي بيده إن ساقيه في الميزان أثقل من أحد‏)‏ وهذا يدل على أن الذي يوزن هو العامل‏.‏ فيقال‏:‏ نأخذ بالقول الأول‏:‏ أن الذي يوزن العمل، ولكن ربما يكون بعض الناس توزن صحائف أعماله، وبعض الناس يوزن هو بنفسه‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ على هذا القول أن الذي يوزن هو العامل هل ينبني هذا على أجسام الناس في الدنيا وأن صاحب الجسم الكبير العظيم يثقل ميزانه يوم القيامة‏؟‏ فالجواب‏:‏ لا ينبني على أجسام الدنيا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - قال‏:‏ ‏(‏إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة‏)‏، وقال‏:‏ اقرؤا ‏{‏فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا‏}‏‏.‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 105‏]‏‏.‏ وهذا عبد الله بن مسعود يقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏إن ساقيه في الميزان أثقل من أحد‏)‏، فالعبرة بثقل الجسم أو عدمه، ثقله يوم القيامة بما كان معه من أعمال صالحة‏.‏ يقول عز وجل‏:‏ ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏‏.‏ وهذه السورة كلها التحذير والتخويف من زلزلة الأرض، وفيها الحث على الأعمال الصالحة، وفيها أن العمل لا يضيع مهما قل، حتى لو كان مثقال ذرة، أو أقل فإنه لابد أن يراه الإنسان ويطلع عليه يوم القيامة‏.‏ نسأل الله تعالى أن يختم لنا بالخير والسعادة والصلاح والفلاح، وأن يجعلنا ممن يحشرون إلى الرحمن وفدًا إنه على كل شيء قدير‏.‏

 تفسير سورة العاديات

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا‏}‏ هذا قسم، والعاديات صفة لموصوف محذوف فما هو هذا الموصوف‏؟‏ هل المراد الخيل يعني ‏(‏والخيل العاديات‏)‏ أو المراد الإبل يعني ‏(‏والإبل العاديات‏)‏‏؟‏ في هذا قولان للمفسرين‏:‏ فمنهم من قال‏:‏ إن الموصوف هي الإبل، والتقدير ‏(‏والإبل العاديات‏)‏ ويعني بها الإبل التي تعدوا من عرفة إلى مزدلفة، ثم إلى منى، وذلك في مناسك الحج، واستدلوا لهذا بأن هذه السورة مكية، وأنه ليس في مكة جهاد على الخيل حتى يقسم بها‏.‏ أما القول الثاني لجمهور المفسرين وهو الصحيح فإن الموصوف هو الخيل والتقدير ‏(‏والخيل العاديات‏)‏ والخيل العاديات معلومة للعرب حتى قبل مشروعية الجهاد، هناك خيل تعدو على أعدائها سواء بحق أو بغير حق فيما قبل الإسلام، أما بعد الإسلام فالخيل تعدوا على أعدائها بحق‏.‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْعَادِيَاتِ‏}‏ والعادي اسم فاعل من العدو وهو سرعة المشي والانطلاق، وقوله‏:‏ ‏{‏ضَبْحًا‏}‏ الضبح ما يسمع من أجواف الخيل حين تعدوا بسرعة، يكون لها صوت يخرج من صدورها، وهذا يدل على قوة سعيها وشدته‏.‏ ‏{‏فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا‏}‏ الموريات من أورى أو وري بمعنى قدح، ويعني بذلك قدح النار حينما يضرب الأحجار بعضها بعضًا، كما هو مشهور عندنا في حجر المرو، فإنك إذا ضربت بعضه ببعض انقدح، هذه الخيل لقوة سعيها وشدته، وضربها الأرض، إذا ضربت الحجر ضرب الحجر الحجر الثاني ثم يقدح نارًا، وذلك لقوتها وقوة سعيها وضربها الأرض‏.‏ ‏{‏فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا‏}‏ أي التي تغير على عدوها في الصباح، وهذا أحسن ما يكون في الإغارة على العدو أن يكون في الصباح لأنه في غفلة ونوم، وحتى لو استيقظ من الغارة فسوف يكون على كسل وعلى إعياء، فاختار الله عز وجل للقسم بهذه الخيول أحسن وقت للإغارة وهو الصباح، وكان النبي - صلى الله عليه وسلّم - لا يغير على قوم في الليل بل ينتظر فإذا أصبح إن سمع أذان كف وإلا أغار‏.‏ ‏{‏فَأَثَرْنَ بِهِ‏}‏ أي أثرن بهذا العدو، وهذه الإغارة ‏{‏نَقْعًا‏}‏ وهو الغبار الذي يثور من شدة السعي، فإن الخيل إذا سعت إذا اشتد عدوها في الأرض، وصار لها غبار من الكر والفر‏.‏ ‏{‏فَوَسَطْنَ بِهِ‏}‏ أي توسطن بهذا الغبار ‏{‏جَمْعًا‏}‏ أي جموعًا من الأعداء أي أنها ليس لها غاية، ولا تنتهي غايتها إلا وسط الأعداء، وهذه غاية ما يكون من منافع الخيل، مع أن الخيل كلها خير، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏ أقسم الله تعالى بهذه العاديات - بهذه الخيل التي بلغت الغاية - وهو الإغارة على العدو وتوسط العدو، من غير خوف ولا تعب ولا ملل‏.‏ أما المقسم عليه فهو الإنسان فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ‏}‏ والمراد بالإنسان هنا الجنس، أي أن جنس الإنسان، إذا لم يوفق للهداية فإنه ‏{‏لَكَنُودٌ‏}‏ أي كفور لنعمة الله عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 72‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالإنسان هو الكافر، فعلى هذا يكون عامًّا أريد به الخاص، والأظهر أن المراد به العموم، وأن جنس الإنسان لولا هداية الله لكان كنودًا لربه عز وجل، والكنود هو الكفر، أي كافر لنعمة الله عز وجل، يرزقه الله عز وجل فيزداد بهذا الرزق عتوًا ونفورًا، فإن من الناس من يطغى إذا رآه قد استغنى عن الله، وما أكثر ما أفسد الغنى من بني آدم فهو كفور بنعمة الله عز وجل، يجحد نعمة الله، ولا يقوم بشكرها، ولا يقوم بطاعة الله لأنه كنود لنعمة الله‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ‏}‏ ‏{‏إِنَّهُ‏}‏ الضمير قيل‏:‏ يعود على الله، أي أن الله تعالى يشهد على العبد بأنه كفور لنعمة الله‏.‏ وقيل‏:‏ إنه عائد على الإنسان نفسه، أي أن الإنسان يشهد على نفسه بكفر نعمة الله عز وجل‏.‏ والصواب أن الآية شاملة لهذا وهذا، فالله شهيد على ما في قلب ابن آدم، وشهيد على عمله، والإنسان أيضًا شهيد على نفسه، لكن قد يقر بهذه الشهادة في الدنيا، وقد لا يقر بها فيشهد على نفسه يوم القيامة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 24‏]‏‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُ‏}‏ أي الإنسان ‏{‏لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ‏}‏ الخير هو المال كما قال الله تعالى ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏‏.‏ أي‏:‏ إن ترك مالًا كثيرًا‏.‏ فالخير هو المال، والإنسان حبه للمال أمر ظاهر، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ولا تكاد تجد أحدًا يسلم من الحب الشديد للمال، أما الحب مطلق الحب فهذا ثابت لكل أحد، ما من إنسان إلا ويحب المال، لكن الشدة ليست لكل أحد، بعض الناس يحب المال الذي تقوم به الكفاية، ويستغني به عن عبادالله، وبعض الناس يريد أكثر، وبعض الناس يريد أوسع وأوسع‏.‏ فالمهم أن كل إنسان فإنه محب للخير أي للمال، لكن الشدة تختلف، ويختلف فيها الناس من شخص لاخر، ثم إن الله تعالى ذكَّر الإنسان حالًا لابد له منها فقال‏:‏ ‏{‏أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ‏}‏ فيعمل لذلك، ولا يكن همه المال ‏{‏أَفَلا يَعْلَمُ‏}‏ أي يتيقن‏.‏ ‏{‏إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ‏}‏ أي‏:‏ نشر وأظهر فإن الناس يخرجون من قبورهم لرب العالمين، كأنهم جراد منتشر، يخرجون جميعًا بصيحة واحدة ‏{‏إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 53‏]‏‏.‏ ‏{‏وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ‏}‏ أي ما في القلوب من النيات، وأعمال القلب كالتوكل، والرغبة، والرهبة، والخوف، والرجاء وما أشبه ذلك‏.‏ وهنا جعل الله عز وجل العمدة ما في الصدور كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 9، 10‏]‏‏.‏ لأنه في الدنيا يعامل الناس معاملة الظاهر، حتى المنافق يعامل كما يعامل المسلم حقًّا، لكن في الاخرة العمل على ما في القلب، ولهذا يجب علينا أن نعتني بقلوبنا قبل كل شيء قبل الأعمال؛ لأن القلب هو الذي عليه المدار، وهو الذي سيكون الجزاء عليه يوم القيامة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ‏}‏ ومناسبة الايتين بعضهما لبعض أن بعثرة ما في القبور إخراج للأجساد من بواطن الأرض، وتحصيل ما في الصدور إخراج لما في الصدور، مما تكنه الصدور، فالبعثرة بعثرة ما في القبور عما تكنه الأرض، وهنا عما يكنه الصدر، والتناسب بينهما ظاهر‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ‏}‏ أي إن الله عز وجل بهم‏:‏ أي‏:‏ بالعباد لخبير، وجاء التعبير ‏{‏بِهِمْ‏}‏ ولم يقل ‏(‏به‏)‏ مع أن الإنسان مفرد، باعتبار المعنى، أي‏:‏ أنه أعاد الضمير على الإنسان باعتبار المعنى، لأن معنى ‏{‏إِنَّ الإِنسَانَ‏}‏ أي‏:‏ أن كل إنسان، وعلق العلم بذلك اليوم ‏{‏إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ‏}‏ لأنه يوم الجزاء، والحساب، وإلا فإن الله تعالى عليم خبير في ذلك اليوم وفيما قبله، فهو جل وعلا عالم بما كان، وما يكون لو كان كيف يكون‏.‏ هذا هو التفسير اليسير لهذه السورة العظيمة، ومن أراد البسط فعليه بكتب التفاسير التي تبسط القول في هذا، ونحن إنما نشير إلى المعاني إشارة موجزة‏.‏ نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق، وأن يجعلنا ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته، إنه على كل شيء قدير‏.‏

 تفسير سورة القارعة

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏الْقَارِعَةُ‏}‏ اسم فاعل من قرع، والمراد‏:‏ التي تقرع القلوب وتفزعها وذلك عند النفخ في الصور، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏‏.‏ فهي تقرع القلوب بعد قرع الأسماع، وهذه القارعة هي قارعة عظيمة لا نظير لها قبل ذلك، وهي من أسماء يوم القيامة، كما تسمى الغاشية، والحاقة، وقوله‏:‏ ‏{‏مَا الْقَارِعَةُ‏}‏ ‏{‏مَا‏}‏ هنا استفهام بمعنى التعظيم والتفخيم يعني‏:‏ ما هي القارعة التي ينوه عنها‏؟‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ‏}‏ هذا زيادة في التفخيم والتعظيم والتهويل، يعني أي شيء أعلمك عن هذه القارعة‏؟‏ أي ما أعظمها وما أشدها، ثم بين متى تكون‏؟‏ فقال جل وعلا‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ‏}‏ أي‏:‏ أنها تكون في ذلك الوقت، يوم يكون الناس كالفراش المبثوث حين يخرجون من قبورهم‏.‏ قال العلماء‏:‏ يكونون كالفراش المبثوث، والفراش هو هذه الطيور الصغيرة التي تتزاحم عند وجود النار في الليل وهي ضعيفة وتكاد تمشي بدون هدي، وتتراكم وربما لطيشها تقع في النار وهي لا تدري، فهم يشبهون الفراش في ضعفه وحيرته وتراكمه وسيره إلى غير هدى‏.‏ و‏{‏الْمَبْثُوثِ‏}‏ يعني المنتشر، فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 7‏]‏‏.‏ لو تصورت هذا المشهد يخرج الناس من قبورهم على هذا الوجه لتصورت أمرًا عظيمًا لا نظير له، هؤلاء العالم من آدم إلى أن تقوم الساعة كلهم يخرجون خروج رجل واحد في آن واحد من هذه القبور المبعثرة في مشارق الأرض ومغاربها، ومن غير القبور كالذي ألقي في لجة البحر، وأكلته الحيتان، أو في فلوات الأرض، وأكلته السباع، أو ما أشبه ذلك، كلهم سيخرجون مرة واحدة، يصولون ويجولون في هذه الأرض‏.‏ أما الجبال وهي تلك الجبال العظيمة الراسية الصلبة فتكون ‏{‏كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ‏}‏ ‏{‏العِهْنِ‏}‏ الصوف‏.‏ وقيل‏:‏ القطن‏.‏ ‏{‏المَنْفُوشِ‏}‏ المبعثر أي‏:‏ أن هذه الجبال بعد أن كانت صلبة قوية راسخة تكون مثل العهن الصوف، أو القطن المبعثر - سواء نفشته بيدك أو بالمنداف فإنه يكون خفيفًا يتطاير مع أدنى ريح، وقد قال الله تعالى في آيات أخرى أن الجبال تكون هباء منبثًّا ‏{‏وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 5، 6‏]‏‏.‏ وقال جل وعلا هنا‏:‏ ‏{‏وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ‏}‏‏.‏

{‏فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ‏}‏‏.‏ قسم الله تعالى الناس إلى قسمين‏:‏ القسم الأول‏:‏ من ثقلت موازينه وهو الذي رجحت حسناته على سيئاته‏.‏ والثاني‏:‏ من خفت موازينه وهو الذي رجحت سيئاته على حسناته، أو الذي ليس له حسنة أصلًا كالكافر، يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏ العيشة مأخوذة من العيش وهو الحياة، يقال‏:‏ عاش الرجل زمنًا طويلًا، أي‏:‏ بقي وحيي زمنًا طويلًا، والعيشة هنا على وزن فعلة فهي هيئة وليست مصدرًا، المصدر الدال على الوحدة أن تقول عيشة، وأما إذا قلت عِيْشَة فهي فعلة تدل على الهيئة، كما قال ابن مالك رحمه الله‏:‏ وفعلة لمرة كجَلسةٍ وفعلة لهيئة كجِلسةً المعنى‏:‏ أنه في حياة طيبة راضية‏.‏ ‏{‏رَّاضِيَةٍ‏}‏ قيل‏:‏ إنها اسم فاعل بمعنى اسم المفعول، أي‏:‏ مرضية‏.‏ وقيل‏:‏ إنها اسم فاعل من باب النسبة أي ذات رضى، وكلا المعنيين واحد، والمعنى‏:‏ أنها عيشة طيبة ليس فيها نكد، وليس فيها صخب، وليس فيها نصب، كاملة من كل وجه، وهذا يعني العيش في الجنة جعلنا الله منهم‏.‏ هذا العيش لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين، لا يحزنون، ولا يخافون، في أنعم عيش، وأطيب بال، وأسر حال فهي عيشة راضية‏.‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ‏}‏ إما أنه الكافر الذي ليس له أي حسنة، لأن حسنات الكافر يجازى بها في الدنيا ولا تنفعه في الاخرة، أو أنه مسلم ولكنه مسرف على نفسه وسيئاته أكثر‏.‏ ‏{‏فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ‏}‏ أم هنا بمعنى مقصوده، أي‏:‏ الذي يقصده الهاوية، والهاوية من أسماء النار،يعني أنه مآله إلى نار جهنم - والعياذ بالله ـ‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد بالأم هنا‏:‏ أم الدماغ، والمعنى‏:‏ أنه يلقى في النار على أم رأسه‏.‏ نسأل الله السلامة‏.‏ وإذا كانت الآية تحتمل معنيين لا يترجح أحدهما على الاخر ولا يتنافيان فإنه يؤخذ بالمعنيين جميعًا فيقال‏:‏ يرمى في النار على أم رأسه، وأيضًا ليس له مأوى ولا مقصد إلا النار‏.‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ‏}‏ هذا من باب التفخيم والتعظيم لهذه الهوية، يسأل ما هي‏؟‏ أتدري ما هي‏؟‏ إنها لشيء عظيم، إنها نار حامية في غاية ما يكون من الحمو، وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏إنها فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءًا‏)‏‏.‏ إذا تأملت نار الدنيا كلها سواء نار الحطب، أو الورق، أو البتغاز أو أشد من ذلك فإن نار جهنم مفضلة عليها بتسعة وستين جزءًا نسأل الله العافية‏.‏ وفي هذه الآية التخويف والتحذير من هذا اليوم وأن الناس لا يخرجون عن حالين‏:‏ إما رجل رجحت حسناته، أو رجل رجحت سيئاته‏.‏ وفيها أيضًا دليل على أن يوم القيامة فيه موازين، وقد جاء في بعض النصوص أنه ميزان فهل هو واحد أو متعدد‏؟‏ قال بعض أهل العلم‏:‏ إنه واحد وإنماجمع باعتبار الموزون، لأنه يوزن فيه الحسنات والسيئات، وتوزن فيه حسنات فلان وفلان، وتوزن فيه حسنات هذه الأمة والأمة الأخرى، فهو مجموع باعتبار الموزون لا باعتبار الميزان، وإلا فالميزان واحد‏.‏ وقال بعض أهل العلم‏:‏ إنها موازين متعددة، لكل أمة ميزان، ولكل عمل ميزان فلهذا جمعت‏.‏ والأظهر - والله أعلم أنه ميزان واحد - لكنه جمع باعتبار الموزون على حسب الأعمال، أو على حسب الأمم، أو على حسب الأفراد‏.‏ وفي هذه الآية دليل على أن الإنسان إذا تساوت حسناته وسيئاته فإنه قد سكت عنه في هذه الآية، ولكن بين الله تعالى في سورة الأعراف أنهم لا يدخلون النار وإنما يحبسون في مكان يقال له الأعراف، وذكر الله تعالى في سورة الأعراف ما يجري بينهم وبين المؤمنين، وأنهم إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين‏.‏ نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن رجحت حسناته على سيئاته، وأن يغفر لنا، ويعاملنا بعفوه، إنه على كل شيء قدير‏.‏